أسباب ظهور الفرق السياسية والكلامية

    ذكر الباحثون أسبابا عديدة لظهور الفرق السياسية والمذاهب الكلامية، في بدايات العصر الإسلامي، وفيما يأتي نشير إلى أهم تلك الأسباب:

   1- توجد نصوص في القرآن الكريم، دلالتها على معانيها غير واضحة، وذلك كأن يكون في النص لفظ  يحتمل أكثر من معنى، أو يكون فيه لفظ غريب أو مبهم، أو يكون سبب الغموض تعارض نصوص فيما بينها، كل ذلك أدى إلى انقسام الآراء واختلاف الأنظار في تفسير بعض النصوص، فمن العلماء من تمسك بالمعنى الظاهري للنص في كل الأحوال، ومنهم من أوله تأويلا سائغا مقبولا، استنادا إلى روح النص وقوانين اللغة، ومنهم من أوله تأويلا بعيدا.

   إذن فالقرآن هو المرجع الأصيل لجميع الفرق والمذاهب الإسلامية، كل مذهب يرى فيه الوجه الذي يريده، وفي هذا الصدد قال الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): القرآن حمّال أوجه.

  2- تعد مسألة الخلافة سببا قويا لشق صفوف المسلمين، ونشأة الفرق السياسية كالخوارج والشيعة، فقد توفي النبـي (صلى الله عليه وسلم) ولم يعين من يخلفه، ولم ينص بنصوص واضحة على نظام يتبع في اختيار الخليفة، لذلك اختلف المسلمون في شأن الخلافة والشروط الواجب توافرها في الخليفة.

  3- حدوث الفتن والحروب الداخلية بين المسلمين أنفسهم، أدى إلى إثارة مسائل وقضايا حساسة، كمسائل الكفر، والإيمان، والجبر، والاختيار، ومصير مرتكبـي الكبائر، فكل هذه الأمور كانت محل خلاف بين المذاهب المشهورة، كالخوارج والشيعة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم.

  4- تحويل الخلافة من نظام شوروي إلى نظام وراثي شبه ملكي على يد الأمويين، ومن ثم قيامهم بإحياء التعصب العرقي، وزرع بذور الفتنة بين القبائل، وإهانة الموالي... فكل هذه الأمور أدت إلى تقوية صفوف المعارضة السياسية، كالخوارج والشيعة.

  5- حينما اتسعت الفتوحات، وانتشرت الدعوة الإسلامية في ربوع الأرض، دخلت الآلاف في دين الله أفواجا، ممن كانوا ينتمون إلى ثقافات متنوعة، وأديان مختلفة، كاليهودية، والنصرانية، والمجوسية، والزرادشتية، والمانوية، والبراهمة، وغيرهم، وقد أثار بعض هؤلاء تساؤلات حول مسائل وأفكار غريبة، كالتناسخ، والاتحاد، والحلول، والرجعة، والثنوية، والتثليث، مما تأثر به بعض المتصوفة والشيعة.

  6- ظهور جماعات تعمل على إفساد عقائد المسلمين، وإثارة الشبهات حول وحدانية الله تعالى، وحقيقة النبوة، واليوم الآخر، من هنا أحسّ بعض علماء المسلمين ـ خاصة المعتزلة ـ بضرورة التسلح بما في أيدي مقابلهم، والوقوف على المناهج والمصادر التي يستقي منها هؤلاء، حججهم وبراهينهم، كي يجادلوهم بمثل أساليبهم ، ويظهروا لهم تهافت أفكارهم وآرائهم.

   7-كانت ترجمة الثقافة اليونانية والهندية والفارسية، التي بلغت ذروتها في عهد المأمون العباسي، مع إيجابياتها في بعض النواحي، فلها سلبيات في نواحي أخرى، منها: انشقاق الفرق الأساسية وانقسامها إلى جماعات ومدارس، تتعمق في الدراسات العقلية المجردة، وماوراء الطبيعة المحسوسة.

   8- إضافة إلى كل ما تقدم، فهناك ظاهرة طبيعية في كافة الأديان والنحل المختلفة، وهي انقسام أتباعهم إلى محافظين وأحرارـ إن صح التعبيرـ فالمحافظون هم الذين يرون الوقوف عند النص، وعدم الخروج قيد شعرة عما صرّح به، أما الأحرار فهم الذين لا يريدون أن يقفوا عند النصوص، بل يعملون فيها عقولهم، ويؤولون ما يخالفها. 


 

  الافتراق والاختلاف

      الافتراق في اللغة مصدر افترَقَ، والاسم: الفُرقَةُ، وتدور مادة(فرق) حول معاني الانفصال والانقطاع والمباينة والانقسام والمباعدة ونحوها، وفي هذا قال ابن فارس: "الفاء والراء والقاف أصل صحيح يدل على تمييزٍ وتزييلٍ بين شيئين".

    ومن هذا الأصل قوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا" والتفرق ضد الاجتماع.

    وقوله جلَّ وعلا: " وإذ فرقنا بكم البحر" أي شَقَقْناه.

    ومنه قوله (صلى الله عليه وسلم): البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"  أي ما لم ينفصل أحدهما عن الآخر.

    والافتراق والتفرق بمعنى واحد، ومن العلماء من يجعل التفرق للأبدان والافتراق للكلام، ويقال: فرَّقتُ بين الكلامين فافترقا، وفرَّقْتُ بين الرجلين فتفرَّقا .

    والمفارقة والفٍراقُ: المباينة، والاسم: الفُرقَةُ، وكذلك الفِرْقُ والفِرقَةُ والفَريقُ: الطائفة من الشيء المتفَرِّق، والفِرْقَةُ: طائفةُ من الناس، والفريقُ: أكثر منه .

    والفُرقانُ: كتاب الله تعالى، لأنه فَرَقَ به بين الحق والباطل والحلال والحرام، ، وكلُّ ما فُرِقَ به بين الحق والباطل أو بين النقيضين فهو فرقانٌ، ولهذا قال تعالى: "ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان". كما أطلق العرب على الصبحِ الفرقانَ، لأنه به يفرقُ بين الليل والنهار .

   أما في الاصطلاح فقد استعمل لفظ (الافتراق) بالمعنى الاصطلاحي في مجالات مختلفة ويمكن توضيح  ذلك فيما يأتي:

    الأول: اصطلاح الفلاسفة والمتكلمين: الافتراق في اصطلاح الفلاسفة والمتكلمين قسم من أقسام الكَونِ، ويقصد بالكون حصول الجوهر في الحَيِّز، وأقسامه أربعة: السكون والحركة و الافتراق والاجتماع.

    ومن هذا المنطلق عرَّف الجرجاني الافتراق بأنه: " كَون الجوهرين في حَيِّزَينِ بحيث يمكن التفاضل بينهما". 

   الثاني: اصطلاح الفقهاء: لا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن معناه اللغوي، لأنهم استعملوه في الانفصال بالأبدان، وعممه بعضهم ليشمل الانفصال بالأقوال وبالأبدان.

   ومن هنا فإن مصطلح (الافتراق) عند الفقهاء يرد عادة في مبحث خيار المجلس من كتاب البيع، وفي التفريق بين الزوجين بالطلاق والفسخ، وفي اللعان، وكذلك في زكاة الأنعام من عدم جواز التفريق بين ما هو مجتمع، أو جمع ما هو متفرق .

   الثالث: اصطلاح كُتّاب الفِرَق وشُرّاح الحديث: مع أن معظم كتاب الفرق وشراح الحديث تناولوا موضوع (الافتراق) بالبحث والتفصيل، ولكنهم لم يعرفوه بل اكتفوا بتصنيفه والتمثيل له ، وربما يعود ذلك إلى عدم خروج معناه كثيراً عن استعماله اللغوي، وكل ما في الأمر أن الاستعمال اللغوي للفظ الافتراق عام وشامل أما استعماله هنا فإنه خاص بمجال العقيدة وأصول الدين.

    ومن هذا المنطلق عرفه بعض المعاصرين بأنه: " الخروج عما كان عليه النبي(صلى الله عليه وسلم)وأصحابه وعن جماعة المسلمين في أصل أو أكثر من أصول الدين" .

    وفي ضوء هذا المعنى ونحوه للافتراق حاول معظم العلماء قديماً وحديثاً أن يشرحوا ويحللوا حديث( افتراق الأمة)  كما سيأتي.

 هذا بالنسبة للافتراق، أما لفظ(الاختلاف) فمأخوذ من (خَلَفَ) و تدور مادة (خلف) في اللغة العربية حول أصول ثلاثة: أحدها أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه، والثاني خلاف قُدّام، والثالث التغيّر .

    فعلى الأول: الخَلَفُ، وهو ما جاء بعدُ، وكذلك الخِلافة، لأن الثاني يجيء بعد الأول قائماً مقامه، وعلى الأصل الثاني، يقال: هذا خَلْفي. وعلى الثالث قولهم: خَلَفَ فوه، إذا تغيَّرَ، ومنه: الخِلاف في الوعدِ .

    أما قولهم: اختلف الناس في كذا، والناس خِلْفَةٌ أو مختلفون، فمن الأصل الأول، لأن كل واحد منهم يُنَحِّي قول صاحبه، ويقيم نفسه مقام الذي نحّاه، وعلى هذا فالاختلاف ضد الاتفاق.

   ولم يخرج معنى الاختلاف في اصطلاحه الشرعي عن معناه اللغوي الذي هو ضد الاتفاق، لذلك عبَّر عنه بعضٌ بأنه: "أن يكون الطريق مختلفاً والمقصود واحداً".

   وقال آخرون: "الاختلاف أن ينهج شخصان فأكثر منهجين مغايرين في التعامل مع شيء من الأشياء، سواء أكان ذلك الشيء رأياً أم قولاً أم عملاً أم موقفاً، وذلك بناء على اعتبارات وقناعات ومنطلقات معينمة، رآها أحدهما صحيحة، ورآها الآخر خطأً".  

   وكذلك استعمل بعض العلماء لفظ(الخلاف) مرادفاً للفظ(الاختلاف) وفي حين فرَّق بينهما آخرون باعتبار أن الطريق مختلف في الاختلاف والمقصود واحد، ولكن في الخلاف كلاهما مختلفان.

    وذكر التهانوي أن الاختلاف يستعمل في قول بني على دليلٍ، أما الخلاف ففيما لا دليل عليه .

    ويتضح مما تقدم أن الاختلاف أو الخِلاف أمر طبيعي إذا بني على دليل أو له أساس شرعي أو عقلي، أما إذا كان الاختلاف على أساس هوى أو تعصب أو جهل أو نحو ذلك فمذموم.

ومن جهة أخرى فإن الاختلاف في عرف العلماء أعم من الافتراق، حيث كانوا يستعملون الاختلاف في الفروع والأصول، أما بالنسبة للافتراق فقد انحصر استعماله في دائرة الأصول والعقائد، وعلى هذا فكل افتراق اختلاف ولكن ليس كل اختلاف افتراقاً.

ونظراً لحديث (افتراق الأمة) الذي سنتكلم عنه، فمعظم العلماء ذموا الافتراق واعتبروه مؤدياً إلى التنازع والتكفير والتبديع والقتال ومن ثم دخول النار.

     لذلك قال الشاطبي: "  ووجدنا أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين، ولم يتفرقوا ولا صاروا شيعاً لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد في الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصاً، واختلفت في ذلك أقوالهم".

     وقال أيضاً: " كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة ، علمنا أنها من مسائل الإسلام . وكل مسألة حدثت وطرأت فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة ، علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء".          


 

تعليقات

المشاركات الشائعة